دراسات إسلامية

 

السلع في الدراسات الاقتصادية الإسلامية

(2/2) 

بقلم : الشيخ زيد بن محمد الرماني

  

 

  

 

 

المال في اللغة :

       مايقتنى ويملك من كل شيء سواء كان عينًا أو منفعة، فكل ما يُحوِزه الإنسان ويملكه فعلاً من عقار وحيوان ونبات ونقد يسمى مالاً. أما ما لا يقع تحت حيازته وملكه وذلك كالطير في الهواء والصيد في الصحراء والسمك في الماء، وما إلى ذلك فلا يسمّىٰ مالاً(1). جاء في القاموس المحيط: >المال ما ملكته من كل شيء<(2).

       وفي لسان العرب: >المال معروف ما ملكته من جميع الأشياء<(3).

       المال في الفكر الوضعي: سبق بيان ذلك، من أن الاقتصاديين يُطلِقون المال على كل شيء نافع يُشبِع حاجة بشرية . ثم هم بعد ذلك يفرّقون بين الأموال التي تقع تحت هذا التعريف على أساس الوفرة والندرة، فما كان منها يمتاز بالوفرة كمياه الأنهار والبحار وأشعّة الشمس، أي ما يُشبع للإنسان حاجة بما تملكه من منافع بدون بذل جهد ودفع ثمن تسمى بالأموال الحرة .

       وأما ما يمتاز بالندرة عندهم كالأطعمة والملابس والسيارات والمباني بحيث لا يحصل عليها الإنسان لإشباع حاجته إلا بثمن وجهد تسمى بالأموال الاقتصادية، وهي تشتمل السلع والخدمات. وبهذا خلصوا إلى أن عنصر المالية في الأموال الحرة هو النفع فقط ، وأما في الأموال الاقتصادية فهو النفع والندرة(4).

المال في الفكر الإسلامي :

       إن مفهوم المال في المصطلح الفقهي وهو مايُطلَق عليه في الفكر الوضعي المال الاقتصادي، لم تتفق كلمة الفقهاء على تحديد معناه؛ حيث خالف الأحناف فيه جمهور الفقهاء، كما سيأتي بيان ذلك ..

مفهوم المال عند الأحناف

 

       لقد وردت عنهم عدة تعريفات للمال تختلف في ألفاظها وتتقارب في دلالتها ومعناها، إذ أن الاختلاف فيها ليس ناجمًا عن اختلاف فهمهم لحقيقة المال في مذهبهم؛ بل هو اختلاف في الألفاظ والعبارات ومدى دقّتها في الكشف عن مفهوم المال عندهم . فمنها: ماجاء عن ابن عابدين إذ يقول: >المراد بالمال: مايميل إليه الطبع ويمكن ادّخاره لوقت الحاجة<(5).

       كما عرفه التهانوي بقوله: >موجود يميل إليه الطبع ويجرى في البذل والمنع<(6).

       وقال صاحب كنز الدقائق: >المال كما صرّح به أهل الأصول مايُتموّل ويُدّخَر للحاجة<(7).

       وقد وُجِّهَتْ انتقادات لهذه التعريفات؛ لأنها لاتعبّر عن حقيقة المال في المذهب الحنفي، فمن الأشياء ما تعافه النفس ولايميل إليه الطبع . وذلك كالأدوية المرّة. ومنها: ما لا يمكن ادّخاره مع بقاء منفعته كالخضرة والفواكه وهي مع ذلك أموال ولا تشملها هذه التعريفات(8). ولذلك حاول بعض المحدثين أن يعرّف المال تعريفًا سليمًا يتّفق مع حقيقة المال في المذهب الحنفي بقوله: >إنه كل مايمكن حيازته والانتفاع به على وجهه المعتاد<(9).

مفهوم المال عند الجمهور :(*)

       أما الجمهور فقد جاءت عنهم أيضًا عدة تعريفات يستطيع الناظر فيها أن يستخلص منها عناصر المالية في نظرهم وهي(10) :

       1- أن يكون الشيء له قيمة بين الناس .

       2- أن تكون هذه القيمة متأتية من أنه ينتفع به انتفاعًا مشروعًا ..

       وعلى هذا الأساس يمكن تعريف المال عندهم: >بأنه ماكان له قيمة مادية بين الناس، وجاز شرعًا الانتفاع به في حال السّعة والاختيار<(11).

مقارنة بين المفهومين :

 

       يظهر لنا من تعريفات الأحناف إضافة إلى ما صرّحتْ به عباراتُهم أن المنافع – والتي منها الخدمات في الفكر الوضعي – ليست بمال عندهم، إذ أنهم يشترطون فيه أن يكون مادة حتى يمكن إحرازه وادّخاره لوقت الحاجة. وهذا لايتأتى في المنافع؛ حيث إنها لا تتجسّد في شكل مادي ومن ثم لم يعتبروها أموالاً .

       يقول صاحب >كنز الحقائق< في ذلك: >والمال ... مايُموَّل ويُدَّخَر وهو خاصّ بالأعيان<(12). ويقول التهانوي أيضا: >إنّ المنفعة ليست مالاً<(13). والتحقيق أن المنفعة ملك لا مال؛ لأن الملك ما من شأنه أن يُتصرَّف فيه بوصف الاختصاص، والمال ما من شأنه أن يُدَّخر للانتفاع به وقت الحاجة<(14).

       أما الجمهور، فإنهم يذهبون إلى أن المنافع أموال: >إذ ليس من الواجب عندهم إمكان إحرازه بنفسه؛ بل يكفي أن تمكن حيازته بحيازة أصله ومصدره ولا شك أن المنافع تُحاز بحيازة محالها ومصادرها<(15). وأيضًا؛ لأن الأموال مخلوقة لصالح الآدمي باعتبار ما تنطوي عليه من منافع؛ فهي مقصودة لذلك وليست لذاتها، وهذا متحقق في المنافع لما تشتمل عليه من نفع، وعليه فلا يصح سلب المالية من المنافع، ولولاها لما صارت الأعيان أموالاً؛ إذ هي مقصودة الانتفاع بها لا لذاتها(16). كما أن الشارع نفسه اعتبر المنفعة مالاً؛ إذ أجاز أن تكون مهرًا، قال تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَاوَرَاءَ ذٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوْا بِأَمْوَالِكُمْ﴾(17). وهذا ماذهب إليه >الشافعي< – رحمه الله – في >الأم< عند احتجاجه لمشروعية الإجارة(18). ورجّحه جماعة من الكتّاب لقوة أدلته واتفاقه مع أعراف الناس ومعاملاتهم(19).

       والخلاصة: مما سبق يتبيّن لنا أن الفكر الإسلامي يشترط في تحقّق المال الاقتصادي القيمةَ والنفعَ المشروع، أما الفكر الوضعي فيشترط فيه: الندرة والنفع(20). كما أن هذا المال على رأي الجمهور يشمل السلعَ والخدمات لاعتبارهم المنافعَ أموالاً، وهم بهذا يتّفقون مع الفكر الوضعي، بخلاف الأحناف الذين قصروا مفهوم المال على السلع لاشتراطهم العنصر المادي، وهو ما يتحقق في السلع دون الخدمات.

       ورغم هذا التقارب بين الفكر الإسلامي والفكر الوضعي في شأن عناصر المالية للمال الاقتصادي(21)، يبقى الخلاف قائمًا في مضمون المال ومحتواه؛ حيث إن المنفعة في الفكر الوضعي ذاتية أي راجعة إلى تقدير الأشخاص، فالشيء النافع مايعتبره الشخص نافعًا ولو كان ضارًا في حقيقته(22).

       أما الفكر الإسلامي فهو ينظر إلى المنافع من الناحية الموضوعية، فما كان مضرًّا في حقيقته لايمكن أن يكون مالاً مشروعًا، ولو رأى الشخص أوالجماعة أنه نافع. فكون الشيء حلالاً أي نافعًا أو حرامًا أي مضرًّا يُرجع فيه إلى أحكام الشريعة مبادئها، لا إلى رؤية الأشخاص الذاتية ولا إلى قيمته المادّية في السوق.(*)

       إن قيمة الشيء وماليته ناتجة عن المبادئ الأخلاقية والمعتقدات، وليست ناشئة عن السوق وسعره؛ لذلك نجد القرآن الكريم يصف السلعَ والأموال المشروعة بالطيّبات والمحرّمة بالخبائث، إشارة إلى معاني النقاء والطهارة التي تدلّ عليها كلمة الطيّبات..

       وقد جاء في القرآن الكريم(23) من خلال آياته الحديث عن صنوف الأموال والمنافع التي أقامها الله للناس معايش ووسائل لإشباع حاجاتهم وسدّ خلاتهم ومن ثم عدها الله نعمًا وامتنّ بها عليهم وذكّرهم بشكرها. وذلك بأسلوب يمتاز بالدقّة والشمول، وبيان وجوه المنافع في الشيء الواحد، كما يكشف عن مدى الترابط وعلاقة التأثير والتأثر بين الأموال في العملية الإنتاجية، ومثال ذلك: قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلىٰ طَعَامِه. أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا. ثـُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضْ شَقًّا. فَأَنْبَتْنَا فِيْهَا حَبًّا وَّعِنَبًا وَّقَضْبًا وَّزَيْتُوْنًا وَّنَخْلاً وَّحَدَائِقَ غُلْبًا وَّفَاكِهَةً وَّأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾(24).

       ففي هذه الآيات جَمْعٌ بين الأموال الحرة وهو ماعناه الماء المصبوب بوفرته وكثرته، والأموال الاقتصادية الإنتاجية منها والاستهلاكية. وذلك ماعبرت عنه الأرض وأشجار النخيل والزيتون >الإنتاجيات<، والحب والعنب وسائر الفواكه (الاستهلاكيات) ..

*  *  *

الهوامش :

 

(1)     ينظر: بدران أبو العينين – الشريعة الإسلامية، مؤسسة شباب الجامعة الإسكندرية، د. ت، ص 286، وأبو الفضل جعفر الدمشقي – الإشارة إلى محاسن التجارة، دارالاتحاد العربي للطباعة، القاهرة، د. ت، ص3 .

(2)          الفيروز آبادي – القاموس المحيط ، ج4/52 .

(3)          ابن منظور – لسان العرب، ج11/635 .

(4)          للاستزادة يمكن الرجوع إلى تقسيم السلع إلى سلع حرة وسلع اقتصادية .

(5)          ابن عابدين – حاشية رد المحتار على الدر المختار، شركة مكتبة ومطبعة البابي الحلبي – مصر، 1966م، ج4/501 .

(6)          التهانوي – كشاف اصطلاحات الفنون، مكتبة خيام وشركاؤه، كلكته، 1822م، ج2/1351.

(7)          ابن نجيم – البحر الرائق شرح كنز الرقائق المطبعة العلمية، القاهرة، د. ت، ج2/217 .

(8)          يراجع: عبد السلام العبادي – الملكية في الشريعة الإسلامية، مكتبة الأقصى، عمَّان، 1974م، ج1/175-179.

(9)          علي الخفيف – أحكام المعاملات الشرعية، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1952م، ص3 .

(10)   في تفصيل تعريفات الجمهور وتحديد عناصر المالية يراجع: عبد السلام العبادي – الملكية في الشريعة الإسلامية، ج1/179، وليلى عبد الله سعيد – (المال وقيود التصرف فيه في الإسلام) ، ندوة الاقتصاد الإسلامي، بغداد، 1403هـ، ص 6-9 .

(11)      عبد السلام العبادي – الملكية في الشريعة الإسلامية، ج1/179 .

(12)      ابن نجيم – البحر الرائق، ج2/217 .

(13)      التهانوي – كشاف اصطلاحات الفنون، ج2/1351.

(14)      ابن عابدين – حاشية رد المحتار، ج4/502 .

(15)      علي الخفيف – أحكام المعاملات الشرعية، ص4 .

(16)      عبد الكريم زيدان – المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1976م، ص 219 .

(17)      الآية 24 سورة النساء .

(18)      الشافعي – الأم ، ج3/26 .

(19)      يراجع د. محمد يوسف موسى – الأموال ونظرية العقد في الفقه الإسلامي، دارالكتاب العربي، مصر، 1952م، ص161.

(20)      د. حسين غانم – السلعة الاقتصادية، ص 5.

(21)      علي عبد رب الرسول – المبادئ الاقتصادية في الإسلام، دارالثقافة العربية للطباعة، القاهرة، د.ت، ص9 .

(22)      علي عبد الواحد وافي – الاقتصاد السياسي – دارإحياء الكتب العربية، القاهرة، 1952م، ص6-7 .

(23)   ينظر: حسن النجفي – زينة المصطلحات الاقتصادية في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، ص165، ود. راشد البراوي – التفسير القرآني للتاريخ، دارالاتحاد العربي للطباعة، القاهرة، 1973م، ص 32-34، وأحمد عواد الكبيسي – الحاجات الاقتصادية ص 167-171 .

(24)      الآيات 24-32 سورة عبس .

*  *  *

*  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الثاني 1428هـ = مايو  2007م ، العـدد : 4  ، السنـة : 31.

 



(*) وهم المالكية والشافعية والحنابلة .

(*) سبق تأكيد ذلك عند الحديث عن تعريف الطيبات في الاصطلاح .